Theory of Relativity اعرف بأقل من دقيقه ماهي النظرية النسبية؟ بالصوت والصورة
بقلم الدكتور ظافر مقدادي
الولادة والفناء؟.. ما هو الحد الفاصل بين المادة والوعي؟.. وما هو المكان؟.. ما هو الزمان؟.. وما معنى الوجود؟.. هذه الأسئلة تطرحها ميكانيكا الكم بطريقة غير مباشرة، وتحاول فلسفة الفيزياء الحديثة الاجابة عليها.
ما هو الحد الفاصل بين الوجود والعدم؟..
علم ميكانيكا الكم في الفيزياء النظرية الحديثة علم شيّق وساحر، فهو يتعامل مع عوالم لم يعتادها العقل البشري.. عوالم تبدو سحرية.. ربما تجعل من الفيزياء الحديثة درباً من الدروب “الميتافيزقية” التي رفضتها الفيزياء عند انطلاقها كعلم. ولكن هذا العلم الساحر يصطدم باللغة البشرية التي لا تستطيع وصفه ووصف عوالمه السحرية، الأمر الذي يجعل من هذا العلم عصياً على الفهم لغير المختصين. أما المختصون فإنهم يرون هذه العوالم في المعادلات الرياضية لهذا العلم. ولهذا سأحاول قدر الإمكان تبسيط وصف هذه العوالم باستعمال لغة بسيطة وواضحة مع استعمال أمثلة لتقريب هذه العوالم الى الذهن، مع ضرورة الاشارة الى أن هذه الأمثلة لا تصف هذه العوالم تماماً بل تُحاكيها بعض الشيء لغرض ايصال الفكرة للقاريء.
وسأعتمد على مرجعين مُختصين في ميكانيكا الكم باللغة الانجليزية، الأول هو كتاب (نسيج الكون) لعالم الفيزياء بريان غرين، والثاني كتاب الفيزيائي فريتجوف كابرا (التاو في الفيزياء)، بالاضافة الى بعض المقالات المنشورة على الانترنت. أما المراجع العربية فلا يتوفر بين يدي سوى كتاب (دين الانسان) للاستاذ الرائع فراس السواح، ففي فصله الأخير يبذل الاستاذ الفاضل جهداً استثنائياً لتبسيط نظريات ميكانيكا الكم معتمداً على مراجع أجنبية لعلماء في هذا المجال.
من ديموقريطس الى الأشاعرة
في الأزمنة السحيقة، وقبل الميلاد، كانت بلاد اليونان تعج بالفلاسفة الذين حاولوا رسم صور لهذا الكون وتكوينه، وانقسموا بشكل عام الى قسمين، قسم قال بأن الكون يتكون من دقائق صغيرة أولية غير قابلة للإنقسام، أطلق عليها الفيلسوف ديموقريطس اسم (آ توم) وتعني (اللامُنقسم) (تمت ترجمته الى العربية الى (ذرّة) وهي ترجمة لا تفي بالغرض تماماً كون الذرة في اللغة العربية تُحيلنا على الصِغَر وليس على عدم الانقسام، والذرة في العربية هي الصغير من النمل حسب ابن عباس). ثم طور الفيلسوف لوسيبيوس هذا المبدأ (الذري) وقال بأن الذرات في هذا الكون لا نهاية لعددها وأنها بأحجام واشكال مختلفة وأن (الفراغ) يفصلها عن بعضها البعض، ومن تركيباتها المختلفة الأشكال والاحجام تتكون الاشياء المختلفة في هذا الكون على تنوعها. والحق يقال أن هذه المفاهيم كانت آنذاك عبارة عن (تجريدات ذهنية) ليس أكثر، أي أنها لم تصل الى الحقائق الفيزيائية الطبيعية. ورغم اعتراضات الكثيرين من فلاسفة اليونان، مثل هيراقليطس وبيرمانيدس وزينون، إلا أن هذه النظرية قد انتصرت في الفلسفة اليونانية حتى وصلت الى العلم الحديث. أما في الحضارة الاسلامية التي انتقل اليها الكثير من الفلسفة اليونانية فقد تناول علماء الكلام من الأشاعرة الذرة كما هي في النظرية الذرية اليونانية، ولكنهم أعطوا (اللامنقسم) اسم (الجوهر الفرد)، وقالوا بأن الأشياء في الكون تنقسم الى (نهاية) (اي جوهر فرد)، وضربوا مثالاً على ذلك مثال الفيل والنملة، فلو كان بالامكان تقسيم كليهما الى ما (لا نهاية) لأصبح حجم الفيل يساوي حجم النملة، وهذا محال، لهذا يجب على الأشياء أن تنقسم الى نهاية.
نيوتن والفيزياء التقليدية
في القرن السابع عشر وضع نيوتن القوانين الأساسية للفيزياء التقليدية التي تتعامل مع حركة الأجسام ( = ميكانيكا نيوتن)، وأصر نيوتن على أن هذه الحركة تتم في المكان ( = الفضاء) والزمان ( = الوقت)، وأن المكان والزمان عبارة عن “خلفيتين مُطلقتين ومنفصلتين” للوجود تتحرك الأشياء فيهما. وهذا الاستنتاج النيوتني حول المكان المطلق لا شك كان متأثراً بمقولة “الفراغ” في النظرية الذرية اليونانية. ورغم اعتراضات العالم والفيلسوف والرياضي الألماني “ليبنتز” الذي قال بنسبية المكان والزمان، إلا أن الفيزياء النيوتنية انتصرت، وقامت كل الفيزياء التقليدية، وما زالت، على مبادئها. وفي هذه الفيزياء تلعب “الحتمية” دوراً جوهرياً، فحسب نيوتن لو عرفنا موقع جسم ما واتجاهه وسرعته فإنه بإمكاننا معرفة موقعه في أي لحظة زمنية قادمة أو سابقة. وتلعب كذلك مقولة “السببية” دوراً جوهرياً، فكل نتيجة ولها سبب. وهكذا اصبح الكون عبارة عن “آلة” عملاقة تعمل بانتظام دقيق ( = فلسفة جبرية حتمية). ولاحقاً قام عالم ورياضي فيزيائي آخر هو “ماخ” واعترض على ميكانيكا نيوتن ونادى مجدداً بنسبية المكان والزمان وعدم النظر الى مقولة السببية على أنها تتعامل مع نظامين منفصلين: “السبب” من جهة و”النتيجة” من جهة ثانية. ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى ظهر آينشتاين ليضع حداً لهذه الشعوذة!!.
صحيح أن فيزياء نيوتن استطاعت تفسير الظواهر الفيزيائية في عالمنا الكبير (ماكرو كوسموس) ولكنها عجزت عن تفسير الظواهر في العالم الصغير داخل الذرة (مايكرو كوسموس)، الأمر الذي دفع العلماء في بداية القرن العشرين للبحث عن فيزياء حديثة تستطيع استيعاب فيزياء نيوتن التقليدية من جهة وتفسير العالم الصغير من جهة أخرى، بمعنى أن فيزياء نيوتن أصبحت مجرد “حالة خاصة” في الفيزياء الحديثة. هذا جانب، أما الجانب الآخر وفي بداية القرن العشرين استطاع العالم “رذرفورد” وضع أول نموذج للذرة، وهو النموذج الذي درسناه في المدارس، حيث اعتمد رذرفورد النموذج الشمسي وطبّقه على الذرة، فأصبحت نواة الذرة في الداخل (وكأنها الشمس) وفيها البروتونات والنيترونات، أما السحابة الخارجية ففيها مدارات تدور حول النواة ويوجد فيها الالكترونات (وكأنها الكواكب). والفرق الوحيد بين ذرة ديموقريطس وذرة رذرفورد يكمن في أن الأولى “تجريدة ذهنية لا تنقسم” أما الثانية فـ”حقيقة فيزيائية قابلة للإنقسام” ومُثبتة بالتجارب المخبرية. ولهذا أصبحت البروتونات والنيترونات والالكترونات هي الأجسام الأولية التي لا تنقسم.
آينشتاين والنظرية النسبية
لم يكن آينشتاين معجباً بفيزياء نيوتن لجهة المكان والزمان كخلفيتين مطلقتين ومنفصلتين للوجود، بل كان ميّالاً لأقوال العالم ماخ. والحق يقال أن آينشتاين قد استفاد من رياضيات ماخ في صياغة نظريته النسبية. في القرن السابع عشر كانت هناك تجربة ذهنية فيزيائية تلائم عالم الفلاحين، وهي التجربة المعروفة بتجربة الدلو المملوء بالماء، فأثناء دوران الدلو حول نفسه يبدأ الماء بداخله بالدوران بعد فترة وجيزة، وعندما يتوقف الدلو عن الدوران يبقى الماء في حالة دوران ويكون سطحه مُقعراً، وعندما يعود الدلو الى الدوران بالاتجاه المعاكس يعود سطح الماء الى حالته الطبيعية المستوية. هذه التجربة دوخت العلماء آنذلك بسبب التناقض الذي تُفصح عنه. فمن المفترض عقلياً أنه عندما يتوقف الدلو عن الدوران أن يكون الماء ساكنا مُستوياً وليس متحركاً مُقعراً. هذه التجربة شغلت العلماء بمفهوم المكان، بمعنى: ما هو المرجع ( = مكان الاسناد) الذي على أساسه نحكم على حركة الأشياء في هذا الكون؟. عند نيوتن كان الجواب بسيطاً ومباشراً وهو “المكان المُطلق” ( = الفضاء)، أما ليبنتز فكان يرى أنه لا وجود لشيء اسمه المكان المطلق، وإنما المرجع هو نسبي، أي نسبة مكان شيء ما (الدلو مثلاً) الى مكان شيء آخر (الماء مثلاً)، وهذا ما أصر عليه ماخ وآينشتاين لاحقاً. لقد توصل آينشتاين الى صياغة النظرية النسبية الخاصة حول المكان والزمان قائلاً أنهما غير منفصلين، بل متصلين، واطلق عليهما صفة “المتصل الزمكاني”، بمعنى أن الوجود له أربعة أبعاد متصلة: “طول وعرض وارتفاع ووقت”. وما الفرق، قد يقول قائل، بين “زمكان” آينشتاين و”مكان وزمان” نيوتن؟ الجواب نجده عند الفلاحين المصريين: “الحركة بركة”.
في “زمكان” آينشتاين، كونه نظام متصل، يتحول المكان الى زمان ويتحول الزمان الى مكان!! هل آينشتاين مجنون؟ ليس تماماً، فبين الجنون والعبقرية شعرة كما يقولون.. دعونا نلقي نظرة على هذا المثال لتقريب المفهوم. أنا جالس الآن على الكرسي، وسرعتي تساوي صفراً، أي أنني لا أتحرك في المكان، ولهذا يكون “استثماري” في المكان يساوي صفراً، أما “استثماري” في الزمان فيكون أكبر ما يمكن (هنا تظهر علاقة الاتصال)، لقد تحول مكاني الى زماني، تماماً كما تتحول الطاقة الكامنة الى طاقة حركة (ألهذا ينتاب الجالس احساس بأن الوقت يمر ثقيلاً؟!). الآن دعوني أتحرك: وها أنذا أسير بسرعة الصوت ( = 340 متراً في الثانية)، أي أنني أستثمر في الزمان أيضاً كما أستثمر في المكان، ما الذي سيحصل؟ ستقل قيمة الزمان (الحركة بركة، فنحن لا نشعر بالوقت يمر ثقيلاً حين نتحرك). والآن دعوني أنطلق بسرعة الضوء وهي أقصى سرعة ممكنة فيزيائياً ( = 300 ألف كم في الثانية أو 186 ألف ميل في الثانية)، ما الذي سيحدث؟ بكل بساطة؟ سيتوقف الوقت وسيصبح صفراً، بمعنى أنني أستثمر الآن كل رأسمالي (أي زمكاني) في المكان (ألا ترون أنني أجوب المكان بسرعة هائلة؟) وذلك على حساب الزمان الذي توقف الآن. توقف؟! نعم.. وأين ذهب؟ لقد تحول الى مكان. لهذا استخلص آينشتاين أن سرعة الضوء مطلقة لا تتغير، وأنه لا يوجد سرعة أكبر من سرعة الضوء؟ لماذا؟ لأنه لو وجدت هكذا سرعة وكان باستطاعتي أن أنطلق بها لأصبح زماني “سالباً”، أي أنني سأعود الى الماضي. أكيد أنت مجنون!! لحظة من فضلكم، نسيت نقطة مهمة وهي أن الوقت يصبح صفرا (أي يتوقف) ليس بالنسبة لي أنا المسافر بسرعة الضوء، ولكن بالنسبة لكم أنتم كمراقبين (وهنا تظهر النسبية). أما مكاني (او مركبتي الفضائية الافتراضية) فيصبح طوله يساوي صفراً أيضاً بالنسبة لكم كمراقبين!!.. أين ذهب “الزمكان” إذاً؟!
في النظرية النسبية الخاصة يستعمل آينشتاين خمس معادلات؟ واحدة للزمان، وقد تحثنا عنها، وواحدة للمكان، وقد تحدثنا عنها أيضاً. والثالثة للكتلة. تقول المعادلة أنه كلما ازدادت سرعة جسم ما تزداد كتلته، وهذا ما حصل لي في مركبتي الفضائية فقد تحول زماني ومكاني (اللذان أصبحا صفرين) الى كتلة اضافية، وأصبح وزن مركبتي أكثر مما كان عليه قبل الانطلاق. ومن أين جاءت هذه الكتلة الاضافية؟ لقد جاءت من الطاقة.. الطاقة؟ نعم، فمع ازدياد السرعة زادت الطاقة. ولكن كيف تحولت الى كتلة؟ يجب علينا أن نتذكر دائما معادلة آينشتاين الجميلة والبسيطة في آن، وهي: “الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء”. أي بما أن مركبتي تسير بسرعة الضوء فإنها اختزنت بداخلها طاقة عالية جداً، هذه الطاقة تتحول الى كتلة حسب المعادلة الآنفة الذكر. هل هذه النظرية هي مجموعة من الأفكار وحسب؟ لا، فقد أثبتت التجارب صحتها تماماً سواء تجارب المُسارع الأوروبي (سيرن) أو جامعة “كالتك” في كاليفورنيا. والجميل في نسبية آينشتاين أنه ضم الزمان والمكان في متصل زمكاني واحد بحيث يتحول المكان الى زمان، والزمان الى مكان. وضم الطاقة والكتلة في متصل واحد بحيث تتحول الطاقة الى كتلة، والكتلة الى طاقة. هذه الاتصالية وضعت حداً لـ”شعوذة” نيوتن، فالحركة لم تعد “انتقال” الأجسام في المكان والزمان، بل أصبحت عبارة عن “حدث” لحظي في الزمكان، سرعان ما يتغير الى “حدث” آخر، وهكذا دواليك.
مع كل هذه “الصرعات” الآينشتاينية إلا أنه لم يكن راضياً تماماً عن انجازاته، ذلك أن نظريته النسبية الخاصة لم تتطرق الى الأجسام المُتسارعة، أي التي تغير سرعتها مع مرور الزمن. بمعنى آخر أنه لم يدرس الجاذبية وتسارع الأجسام، الأمر الذي دفعه الى تكملة نظريته بعد عشر سنوات ( = النظرية النسبية العامة). وما صرعات هذه النظرية يا ترى؟ بالتأكيد اختلفت عن مفهوم الجاذبية النيوتني في الفيزياء التقليدية الذي كان مبهماً وغير مفهوم، ولم أفهمه أنا شخصياً عندما كنت طالباً في المدرسة رغم الحاحي على المدرسين لتوضيحه، ولكن على ما يبدو كانوا هم غير عارفين من أين تأتي هذه الجاذبية، وكل ما قالوه أن الأرض تشبه المغناطيس الكبير!!. أما بالنسبة لزمكان آينشتاين فإن الجاذبية تأتي من “تشوّه” النسيج الزمكاني.. ماذا؟ لو بقينا على المغناطيس الكبير لكان الوضع أسهل!! مهلاً.. دعونا نتصور أن الزمكان بأبعاده الأربعة عبارة عن شبكة معلقة كما هو الحال في السيرك. والآن دعونا نضع عليها كرة كبيرة وثقيلة، ما الذي سيحدث؟ سيتشوّه سطح الشبكة، أي أنه سيتقعّر حول هذه الكرة. والآن دعونا نضع على الشبكة في موضع آخر كرة أصغر وأخف، بالطبع ستتقعر الشبكة حول هذه الكرة أيضاً، ولكن مقدار هذا التقعر أقل من مقدار التقعر عند الكرة الأولى، لهذا ستتدحرج الكرة الصغيرة على الشبكة باتجاه الكبيرة، أي أنها ستنجذب اليها. وعلينا الآن أن نتصور الكون وكأنه شبكة سيرك ضخمة (الشبكة هي الزمكان) وأن كل الأجرام في هذا الكون تُحدث تقعراً حولها بمقدار كتلتها، لهذا تنجذب الأجرام (والاشياء على الأرض) باتجاه بعضها البعض، صغير الكتلة باتجاه كبيرها، ولهذا تدور الأرض حول الشمس ويدور القمر حول الأرض. ولو قُدّر لنا أن نخرج خارج هذا الكون لرأينا “مادة هلامية” (كتعبير عن الزمكان) تتحرك الأجرام بداخلها ضمن أخاديد (مسارات) تنحتها الأجرام أثناء انجذابها لبعضها البعض نتيجة تشويه هذه الأجرام لهذه المادة الهلامية.
من آينشتاين الى “دفقات” بلانك
لقد أصبح نيوتن الآن آخر المشعوذين، وذهب معه مكانه المطلق وزمانه المطلق. أما تحوّل الطاقة الى مادة، والمادة الى طاقة، حسب آينشتاين، فقد فتحت الباب الى “صرعة” جديدة في الفيزياء الحديثة، أصبحت تُعرف بـ “النظرية الكمومية”. و”الفيلم الجديد” بدأ مع بداية القرن العشرين أيضاً مع العالم “ماكس بلانك”، فقد اكتشف أن إشعاع الجسم الأسود بعد تسخينه يُعيد اطلاق الطاقة التي اكتسبها من التسخين على شكل “دفقات” او “رُزم” من الطاقة على شكل “متقطع” بحيث تقل شدة ترددها مع كل دفقة حتى تنتهي. هذه الدفقات او الرزم أسماها بلانك “كمّات” (جمع كم، وكل كم هو دفقة). وما الجديد عند بلانك هذا؟ الجديد أنه حسب الفيزياء التقليدية كان الاعتقاد أن الجسم الأسود يكتسب الطاقة بشكل “متصل” ثم يقوم باشعاعها بشكل متصل أيضاً على شكل “موجات” وذلك نتيجة توتر الإلكترونات في مدارات ذرة الجسم الساخن. أما ما أثبته بلانك فكان أن الطاقة تنطلق من الجسم الأسود على شكل دفقات (او كمّات) متقطعة. لقد أثبت أينشتاين لاحقاً أن الطاقة تسلك سلوك الكمّات فعلاً، ولا تسير في “الأثير” على شكل موجات كما كان يُعتقد سابقاً (مصطلح الأثير من نيوتن). وقد أثبتت التجربة صحة هذا القول، فعند تسليط حزمة من الضوء على لوح معدني تنقلع (او تنفلت) الالكترونات عن اللوح وتتبعثر في الهواء، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا اذا كان الضوء عبارة عن “دفقات” (اي كمات) من “فوتونات”، تماماً كما دفقات الرصاص الخارجة من بندقية تُهشّم الحائط وتتطاير منه حبيبات الاسمنت ( = الأثر الكهروضوئي). ولكن الصرعة لا تتوقف هنا وإنما في حالة إذا ما خففنا من شدة الضوء فإن طاقة الدفقات لم تخفّ وإنما قلّت عدد الدفقات نفسها، الأمر الذي أدى الى اقتلاع عدد أقل من الالكترونات. أما تخفيف طاقة الضوء فيتم نتيجة تغيير “لون” الضوء، فالضوء البنفسجي وهو الأعلى في الطيف الشمسي يمتلك تردداً عالياً، أي أن فوتونات هذا الضوء تحمل طاقة أكبر، بينما الضوء الأحمر هو الأقل تردداً (التردد هو الذبذبة او التوتر).
عفواً.. لحظة من فضلك.. لقد قلت “تردد” و”ذبذبة”؟ هل تقصد أن الضوء يسير كـ”الموجة”؟ ولكنك قلت أيضاً أن دفقات الضوء كانت تحتوي على فوتونات؟ فكيف يسلك الضوء سلوك الموجة وفي نفس الوقت هو تيار من الفوتونات؟.. حسناً، دعونا نذهب الآن الى شاطئ البحيرة، وسأقف أنا في الماء، ونرمي حجراً في البحيرة بالقرب مني، سيُحدث الحجر موجات مائية في البحيرة تأخذ تدريجياً بالابتعاد أفقياً بشكل دائري عن مكان سقوط الحجر. وعندما تعبر هذه الموجات فوق قدميْ فإن عدد الموجات العابرة في فترة زمنية معينة (دقيقة مثلاً) هو تردد هذه الموجة. ولكن مع حركة هذه الموجة كانت الأسماك تسبح تحتها، أليس كذلك؟ الموجة المائية في هذا المثال هي كموجة الضوء، والأسماك التي تحتها هي كحركة تيار الفوتونات. أي أن الضوء يسلك سلوك الموجة و”الجُسيم المادي”. إن موجية الضوء تم اثباتها تجريبياً قبل آينشتاين بقرن من الزمان ( = تجربة يونغ، او الحيود الضوئي)، والآن جاء آينشتاين ليقول لنا أن الضوء عبارة عن “حبيبات” لا كتلة لها ( = فوتونات) تسلك سلوك الجسيمات. فكيف نفهم هذا التناقض في طبيعة الضوء؟!
لو بقيت الأحجية على الضوء وحده لهان الأمر، فقد جاء عالم شاب فرنسي يدعى “ديبروي” وألقى بقنبلة بين أقدام الفيزياء، فقد ضم معادلات بلانك الى معادلات آينشتاين وأثبت رياضياً أن “المادة” تسكل سلوك الموجة أيضاً، وأن لها تردداً، وكلما زاد عزم الجسيم المادي كلما قصرت موجة تردده. وبعدها بقليل جاء العالم “دافيسون” ليثبت تجريبياً صحة معادلات ديبروي، وحاز الإثنان على جائزة نوبل في الفيزياء. فقد أعاد تجربة يونغ في الحيود الضوئي، ولكن بدل اطلاق حزمة من الضوء أطلق دفقة (كم) من الإلكترونات، وهي جسيمات مادية لها كتلة وهي جزء من الذرة التي تتكون منها المادة حسب الفيزياء التقليدية. وكانت النتيجة أنها سلكت سلوك الضوء. والأمر المحير حقاً هو أنه عندما أطلق حزمتين عبر فتحتين متقاربتين لم تسقط الالكترونات على اللوح الحساس على شكل الفتحتين، وإنما على شكل “بقعة” واحدة وكأنها بقعة ضوء. ولكن ما هو محير أكثر من ذلك هو اعادة التجربة باطلاق الالكترونات فرادى، اي بالتتابع كما ينطلق الرصاص من المسدس، باتجاه فتحة واحدة أولاً، ثم باتجاه الفتحتين معاً ثانياً، وكانت النتيجة أن سلوك الالكترونات “فردياً” هو سلوك موجي!! وهذا لا يمكن تفسيره إلا على أساس أن الالكترونات “تختار” أين تتجه وأين تسقط، وكأنها “تعي وتفهم”. يقول عالم الفيزياء الكمومية “ووكر”: (يبدو الكون مسكوناً بعدد لانهائي من وحدات وعي صغيرة مسؤولة عن سير عمليات الكون)..هذا هو الجنون بعينه؟!.
من الحتمية الى الاحتمالية
كان آينشتاين ميّالاً الى الطبيعة الجسمية للضوء، ولكنه لم ينفِ الطبيعة الموجية، لهذا اعتبر أن الطبيعة الموجية هي موجة “شبحية”. وبالطبع هذا الوصف لم يقنع العلماء، خاصة “نيلز بوهر”، الذي اعتبر أن الطبيعة الموجية عائدة الى “موجة احتمال”، ولكنها ليست موجة بالمعنى الطبيعي وإنما موجة ككيان رياضي. وهنا اعتبر آينشاين أن الاحتمال لا يليق بالله سبحانه، فقال إن الله لا يلعب النرد مع الكون، فردّ عليه بوهر: لا تقل لله ما يجب أن يفعل. وأصبح آينشتاين آخر الفيزيائيين التقليديين. ولكن، ما معنى “موجة الاحتمال” حسب بوهر؟ معناه أن الأجسام الاولية “دون الذرية” تعيش في حالة بين “الحدوث” وبين “العدم”، أي أنها “تنحو” او “تميل” للحدوث. أي أن موجة الاحتمال عبارة عن “طور” بين الحدوث ولكنه لم يحدث بعد. يقول العالم “هايزنبرغ”: (انها نوع غريب من الواقع الفيزيائي، يتوسط بين الامكان والتحقق الفعلي). ولكن من أين جاءت موجة الاحتمال هذه؟ جاءت من مبدأ “اللايقين” في ميكانيكا الكم، فهذه الجسيمات دون الذرية لا يمكن التبؤ بمسارها فعلاً، وكل ما يمكن فعله هو دراسة سلوكها الاحتمالي كمجموعة تُدرس احصائياً. وهذا ينطبق على باقي الجسيمات الذرية، وعلى الذرة نفسها، وعلى الجزيئات، بل على كل المادة، بل على الناس والسيارات وغيرها، فكلها سلوكات احتمالية، ولكنها في العالم الكبير غير ملحوظة لأن موجة الاحتمال قصيرة للغاية. وهنا يسقط مبدأ “الحتمية والجبرية” ليحل محله مبدأ “الاحتمالية والحرية”.
يدرس علم الاحصاء سلوك الجماعات، ناس او سيارات وغيرها، ولا يدرس سلوك الفرد نفسه، فعندما نقول أن نسبة ازدياد عدد السكان في بلد ما هي كذا وكذا، فنحن لا نعرف من أي عائلة تأتي هذه النسبة، وإنما من الجماعة ككل. وعندما ندرس انعطاف السيارات على مفترق طرق، نقول تنعطف نسبة كذا وكذا باتجاه اليمين، ولكننا لا نعرف أي سيارة تنعطف باتجاه اليمين. وهذا ينطبق على موجة الاحتمال في ميكانيكا الكم، فهي تدرس احتمال حدوث كذا وكذا كسلوك جماعي، ولا تستطيع تعيين أي الإلكترونات بالضبط. فهذه الالكترونات تتحرك باستمرار ولا تهدأ ولا يوجد أسباب لذلك، فهذه من طبيعة العالم الصغير دون الذري، لا يحكمه السبب والنتيجة، وانما “الميول للوجود”. وهي ليست جسيمات مادية بالمفهوم التقليدي، فهي ليست “أشياء” وإنما “تجريدات ذهنية” يستعملها الفيزيائيون لدراسة الظواهر الكمومية، ولهذا أطلقوا عليها اسم “كم” وما يعنيه من “مقدار” وليس “كيف ما”. إنها ليست “لبنات” أساسية مادية، إنها ببساطة “كمّات”. ولكن لصعوبة فهم طلاسم العوالم الكمومية أبقى العلماء على المصطلحات القديمة في الفيزياء التقليدية، وذلك لعجز اللغة عن التعامل مع ميكانيكا الكم. كيف نشرح هذا كله على مستوى الذرة مثلاً؟ على مستوى الذرة لا يمكننا القول أن الالكترون الفلاني موجود في الموقع الفلاني في المدار الفلاني، وانما نقول أن احتمال “حدوثه” في الموقع الفلاني هو كذا وكذا، واحتمال “حدوثه” في موقع آخر هو كذا وكذا ( = تابع الاحتمال). والآن دعونا نحرر هذا الالكترون من مداره في الذرة لندرس سلوكه في منطقة الرصد على لوح حساس. أولاً، مسار ارتحاله من منطقة التجهيز الى منطقة القياس هو مسار غير يقيني وإنما احتمالي، فنحن لا نستطيع القول أنه موجود في النقطة الفلانية في الزمن الفلاني، وإنما نقول أن احتمال وجوده هو كذا وكذا، فهذا الارتحال هو “انتشار لممكنات” ( = الدالة الموجية لشرودنغر). وثانياً، نحن لا نعرف مكان سقوطه على اللوح الحساس ولكن نعرف احتمال ذلك فقط، فعندما نقوم برصده يتحقق هذا الاحتمال (أي يحدث) بالذات، وتصبح باقي الاحتمالات تساوي صفراً. أما قبل ذلك فهذا الالكترون، رياضياً، لم يكن موجوداً، يقول العالم “أوبنهايمر”: (لو تساءلنا: هل كان في حالة سكون؟ كان الجواب بالنفي، هل كان في حالة حركة؟ كان الجواب بالنفي). وبهذا لا يكون للإلكترون أي معنى مستقل، وأنما هو “علاقة” أو “رابطة” في جملة القياس. أي أنه أشبه ما يكون بـ”معلومة” تنتقل في جملة كمومية في وقت فوري (آني) وكأن سرعتها أسرع من سرعة الضوء. وإذا ما أخذنا باقي الجسيمات الأولية دون الذرية لرسم صورة أكبر، فإننا نحصل على “علائق” (جمع علاقات) فيزيائية تشاركية متصلة تحمل معلومات. وما الذرة في ضوء هذا المفهوم إلا “المسرح” الصغير الذي تتشارك فيه هذه العلائق. يقول نيلز بوهر: (ان الجسيمات ليست إلا تجريدات من صنعنا، ولا يمكن تحديد خصائصها إلا من خلال تفاعلها مع جمل اخرى).
هل هذا يعني أننا لا نستطيع تقسيم الذرات الى جسيمات أولية؟! هذا السؤال غير دقيق في ميكانيكا الكم، فلا يوجد ذرات وجسيمات أولية مادية كما نفهمها تقليدياً، وإنما يوجد علائق وأنماط احتمالية لهذه العلائق المتبادلة، ولا وجود لوحدات مستقلة وإنما اتصال علائقي، وكأنه نسيج في عمق هذا الكون. والوعي الانساني ليس خارج هذا النسيج، بل انه يتصل به، لهذا يتدخل وعي المراقب الذي يقوم بالتجربة في التجربة نفسها، وكأن وعيه جزء من هذا النسيج العلائقي. يقول “هايزنبرغ”: (العلوم الطبيعية لا تصف الطبيعة وتفسرها، بل هي جزء من ذلك التفاعل بيننا وبين الطبيعة). أما ذرة ديموقريطيس ورذرفورد و”الجوهر الفرد” الأشعري فلا معنى لها في ميكانيكا الكم إلا إذا فُهمت كتجريدات ذهنية وليس كوحدات فيزيائية كما هو الحال في مثال الفيل والنملة. وما يُحيط بنواة الذرة ليست جسيمات مادية وانما دفقات احتمالية (كمّات) تشبه تلك الموجات التي تنتج عن اهتزاز حبل مربوط بالحائط ونقوم بتحريكه من الطرف الآخر. وماذا عن “تفتيت” الجسيمات الأولية الى جسيمات أصغر؟ للإجابة على هذا السؤال هيا بنا الى لعبة تصادم السيارات.
العالم دون الذري العجيب
سنقوم الآن بعملية تصادم سيارتين متجهتين باتجاه بعضهما. ماذا ستكون النتيجة؟ حطام السيارتين وقطعهما المتناثرة هنا وهناك. الآن دعونا ندخل في مسارع نووي ونقوم بعملية تصادم بين بروتونين. ماذا سينتج عن التصادم؟ قطع البروتونين المتناثرة!.. لا يا عزيزي، سينتج عنهما جسيمات أولية أكثر عدداً من البروتونين. ففي احدى التجارب نتج عن تصادم البروتونين 16 جسيماً جديداً ليست أصغر من البروتونين وإنما تعادلها من ناحية الكتلة. كيف نفسر ذلك؟ علينا أن نتذكر قانون آينشتاين: (الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء). وهذا ما حصل، فعند تسريع البروتونين الى سرعة قريبة من سرعة الضوء، اكتسب كل منهما طاقة هائلة جداً، وفي لحظة التصادم تحولت كل هذه الطاقة الى “كتل” جديدة، أي 16 جسيماً جديداً. هل هذا يعني أنها خُلقت من عدم؟ ليس تماماً، بل تحولت الطاقة الى مادة. فالجسيمات الأولية في حالة فناء وولادة مستمرة، فلا وجود للجوهر المادي، بل للتحول من شكل الى آخر: موت وحياة.. فناء وانبعاث. فالكتلة ليست إلا شكلاً من أشكال الطاقة، والطاقة لا تفنى وإنما تتحول من شكل الى آخر بما فيها شكل المادة. وهذا ما يجعل الجسيمات الأولية عبارة عن رزم (كمّات) من الطاقة، وليست جواهر مادية. وهنا تنصهر نسبية آينشتاين (الزمكان) بميكانيكا الكم (الكمّات الطاقية) لتعطينا تفسيراً لهذا اللغز، ففي البعد المكاني يظهر الوجود على شكل مادة، وفي البعد الزماني يظهر على شكل طاقة سارية نشطة دوماً.
حكدضافية عددها سبعة (المجموع الكلي يساوي 10 ابعاد مكانية). هذه الابعاد مُلتفة على بعضها مكانياً، بحيث لا يصبح هناك أي معنى للغة البشر، فلا معنى لكلمة فوق وتحت ويمين ويسار ومضى وعاد وغيرها. هذه الأوتار الفائقة في حالة اهتزاز مستمر، وكل “شدة اهتزاز” تعبّر عن “جسيم مادي ما”. أي أن مفهوم الجسيمات المادية وفقاً لهذه النظرية هو “شدة اهتزازات هذا الوتر او ذاك”. وهذه الاهتزازات مختلفة، الأمر الذي ينتج عنه “ايقاعات الكون الراقص”.
الآن دعونا نتصور ذرة الهيدروجين من منظور اهتزازي. وذرة الهيدروجين ذرة بسيطة تتكون من الكترون واحد وبروتون واحد. دعونا نفترض الآن أن الالكترون هو اهتزاز وتر الكمان، وأن البروتون هو اهتزاز وتر البيانو، ودعونا نفترض أن هذه هي معزوفة “سوناتا القمر” لبيتهوفن (ذرة هيدروجين = سوناتا القمر). ثم لنأخذ ذرة الاوكسجين، وهي تحتوي على 8 الكترونات و8 بروتونات و8 نيترونات، ولنفترض أن كل الكترون هو عزف كمان، وكل بروتون هو عزف بيانو، وكل نيترون هو عزف باس. نحن الآن أمام اوركسترا أضخم من الأولى، ودعونا نفترض أن هذه الاوركسترا تعزف “فالس ماندلسون” (ذرة الاوكسجين = فالس ماندلسون). وبما أن “جزيء الماء” يتكون من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الاوكسجين دعونا نفترض جدلاً أن أوركسترا كبيرة الآن تعزف سوناتا القمر مرتين في الوقت الذي تعزف فيه فالس ماندلسون مرة واحدة، هذه “السمفونية الجديدة” هي “الماء”.. انها سيمفونية الحياة.
أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بالحفلة الموسيقية؟.. لا بالطبع لم نستمتع!!.. فكيف نفهم أن الماء، وهو مادة، هو مجرد “ايقاعات”؟.. للجواب على هذا السؤال عليكم قراءة المقال مرة أخرى.. والآن، استودعم الله.
الحرية والرياضيات - د.عمار سليمان علي
الفلسفة أمّ العلوم، والحرية هي بنت الفلسفة المدلّلة التي حظيت على مرّ العصور بأكبر قدر من النظريات والمناقشات والأفكار الفلسفية، ومؤخّراً دخل على خطّ الحرية علم لم يكن في البال هو علم الرياضيات، حيث حاول عالما رياضيات معروفان أن يجيبا عن السؤال الأزليّ: هل نحن أحرار؟ وهل إرادتنا الحرّة ـ إن وجدت ـ مطلقة أم مقيدة؟
انطلق العالمان في محاولتهما للإجابة عن السؤال السابق من مبدأ بسيط زعما أنهما توصّلا أخيراً إلى البرهان عليه رياضياً، وهو المبدأ القائل: إذا كنّا كبشر نمتلك إرادة حرّة، فإنّ الجسيمات تحت الذرية يجب أن تكون كذلك، وإلا فلا حرّية ولا إرادة حرّة، لا للبشر ولا للجسيمات. ويبدو أنّ هذا المبدأ ليس حديثاً كلياً، ففي القرن الأول قبل الميلاد كتب الفيلسوف والشاعر الروماني تايتوس لوكريتيوس كاروس متسائلاً بما معناه: إذا لم تكن الذرّات قادرة على تغيير اتجاهاتها وتوليد حركات جديدة يمكن أن تكسر تسلسل روابط القضاء والقدر ـ السلسلة الأبدية للسبب والنتيجة ـ فما هو مصدر الإرادة الحرّة التي تملكها الأشياء الحيّة على طول هذه الأرض؟
ورغم أنّ الإرادة الإنسانية الحرّة تبدو من أكثر الموضوعات الفلسفية صعوبة وهلامية ـ إذا جاز التعبير ـ وأبعد ما يكون عن دنيا الرياضيات وشروحها وبراهينها، فإنّ العالمين جون كونويJohn Conway وسيمون كوتشين Simon Kochen ، وهما عالمان محترمان جدّاً من جامعة برينستون، قرّرا منذ سنوات أن يخوضا غمار هذه المعمعة، حتى توصّلا مؤخراً إلى ما اعتبراه برهاناً رياضياً على المبدأ التالي: إذا كان الإنسان يمتلك ولو جزءاً بالغ الصغر من الإرادة الحرّة، فإنّ الذرّات ينبغي أن تتصرف بشكل حرّ، غير قابل للتنبّؤ والتوقّع. وبما أنّ علم ميكانيك الكمّ التقليديّ قد تبنّى سابقاً فكرة عدم القدرة على التنبّؤ بالنسبة لسلوك الجسيمات (حيث تقول نظرية الكمّ: إنّ أفضل ما يستطيع أيّ شخص أن يتمنّى فعله هو التنبّؤ بأرجحية أنّ الجسيم سوف يتصرّف بطريقة معيّنة)، فإنّ علماء الفيزياء لم يشعروا بعد الاكتشاف الرياضي الفلسفيّ الجديد ـ إذا جازت التسمية ـ بأيّ نوع من القلق أو التردّد على الإطلاق، رغم أنّهم على طول الخطّ رجوعاً إلى اينشتين نفسه لم يكونوا سعداء بهذه الفكرة، ومن الأقوال المشهورة لاينشتين في هذا المجال: الربّ لا يلعب النرد. وقد حاول بعض علماء الفيزياء في الواقع، ومنذ ولادة ميكانيك الكمّ، أن يقدّموا تفسيرات بديلة لمعادلاتها بهدف التخلّص من هذه اللا حتمية indeterminism. ولعلّ التفسير البديل الأكثر شهرة يعود إلى عالم الفيزياء ديفيد بوم David Bohm الذي حاول في خمسينات القرن الماضي أن يثبت أنّ سلوك الجسيمات تحت الذرية محدّد كلياً بـ “عوامل متغيرة خفية” لا يمكن مراقبتها. أما كوتشين وكونوي فيريان أنّ هذا البحث ميئوس منه، ويزعمان أنهما يمتلكان البرهان على أنّ عدم إمكانية التنبّؤ هو أمر متأصّل في العالم نفسه، أكثر مما هو مجرد نظرية كمّ. بينما يرى علماء فيزياء آخرون أنه يجب الكفّ عن نظرية الحتمية، أو الكفّ عن نظرية الإرادة الحرّة، حتى أصغر جزء من الإرادة الحرّة.
برهان كونوي كوتشين سبيكر:
تنطلق مناقشة كونوي وكوتشين من برهان قديم اكتشفه كوتشين نفسه قبل أربعين عاماً بالاشتراك مع زميله ارنست سبيكر Ernst Specker. فمن المعروف أنّ الجسيمات تحت الذرية تمتلك خاصية تسمّى العزم الزاوي [عز] الذي تحدّده حركة الجسيم ودورانه على المحاور المختلفة، فعلى كل محور يحدث للجسيم نفسه عزم زاوي مختلف عنه على محاور أخرى. وقد أظهرت التجارب أنّ هناك نمطاً من الجسيمات تحت الذرية التي عزمها الزاوي واحد [جسيم عز=1]، وهذا النمط يمتلك خاصية غريبة تلخص كما يلي: إذا اخترنا ثلاثة محاور عمودية، وحرّضنا جسيم عز=1 بغية تحديد ما إذا كان العزم الزاوي حول كلّ محور من محاوره هو صفر، فإنّ واحداً من المحاور بكلّ تأكيد سيكون له عزم زاوي صفر، بينما لن يكون العزم الزاوي على المحورين الآخرين صفراً. وهذه القاعدة سمّاها كونوي وكوتشين: قاعدة 1-0-1 .
من الواضح أنّ خاصية العزم الزاوي هي واحدة من تلك الخاصيات التي لا يستطيع علماء الفيزياء التكهن بها ولا بكيفية تطورها قبل التحريض. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يتخيّل أنّ العزم الزاوي لجسيم ما حول أيّ محور، كان محدداً قبل أن يصل أيّ شخص آخر ليحرّضه. وهذا هو تماماً ما نفترضه نحن بشكل عاديّ في الحياة اليومية، فنحن لا نتخيّل مثلاً أنّ جداراً أبيض قد تحوّل أبيض اللون، تماماً في اللحظة التي نظرنا فيها إليه، بل نحن نعتبر أنّه كان أبيض اللون طيلة الوقت، قبل النظر إليه وبعد ذلك أيضاً. لكن كوتشين وسبيكر أظهرا أنّ هذه الفرضية ـ فرضية أنّ الجدار كان أبيض طيلة الوقت ـ لا يمكن أن تصمد في عالم الجسيمات تحت الذرية الغريب. لقد استخدما فرضيات رياضية صرفة لإظهار أنه ما من طريقة تمكّن الجسيمات من اختيار عزومها الزاوية حول كل محور متخيّل أو يمكن تخيله، بحيث تتوافق مع قاعدة 1-0-1 . وفي الواقع فإنّ مجموعة من 33 محوراً فقط ستكون كافية لإدخال الجسيم في حالة تناقض مع القاعدة آنفة الذكر، فالجسيم يستطيع اختيار العزوم الزاوية حول أوّل 32 محوراً بشكل يماشي القاعدة، ولكن بالنسبة للمحور الأخير لا الصفر ولا اللا صفر سوف يعمل بما يناسب القاعدة، لأنّ اختيار الصفر سوف يوجد مجموعة من ثلاثة محاور متعامدة اثنان منها صفر، أما اختيار اللا صفر فسوف يوجد مجموعة مختلفة من ثلاثة محاور متعامدة ثلاثتها تكون لا صفر، مما يؤدي في كلتا الحالتين إلى كسر قاعدة 1-0-1. من هنا استنتج كوتشين وسبيكر أنّ الجسيم ليس بمقدوره أن يحدّد عزمه الزاوي في أيّ اتّجاه قبل أن يتمّ قياسه، ولو أنّ ذلك يحدث فعلياً لكان علماء الفيزياء قادرين أحياناً على مراقبته وهو يكسر قاعدة 1-0-1 ، الأمر الذي لا يحدث أبداً. بل الذي يحدث، بدلاً من ذلك، هو أنّ الجسيم يحدد أثناء طيرانه العزم الزاوي الذي يأخذه على محور طيرانه.
لعبة العشرين سؤالاً:
في سبيل تبسيط الفكرة وتقريبها للأذهان، يمكن مقارنة الموقف بـ “لعبة العشرين سؤالاً”، وهي لعبة يضمر فيها أحد اللاعبين اسم شيء ما أو موضوع ما في نفسه، ويوجه إليه اللاعب الثاني ـ الخصم ـ أسئلة جوابها: نعم أو لا، بغية التوصل إلى اكتشاف اسم ذلك الشيء أو الموضوع. فاللاعب الشريف يقرّر سلفاً في نفسه موضوعاً واحداً لا غير، ويجيب عن كلّ سؤال من أسئلة خصمه بصدق وشرف، على أمل ألا يتمكّن الخصم من الاستدلال على ما قام باختياره. أماّ اللاعب الذكيّ فيمكنه أن يغشّ، عبر تبديل الموضوع بشكل جزئيّ على طول الخطّ، وفي هذه الحالة، لا تكون أجوبته عن أسئلة الخصم محدّدة مسبقاً، وهنا نقطة التشابه مع سلوك الجسيم، كما شرح كوتشين وسبيكر، فالجسيم ـ وفقاً لهما ـ يشبه اللاعب الغشّاش، وقد استنتجا ذلك بإظهار أنه لا يوجد موضوع مفرد يرضي كلّ الأسئلة (أو الـ 33 محوراً) في نفس الوقت.
لكن ثمّة تفسير محتمل آخر، فربّما يكون العزم الزاوي للجسيم محدّداً مسبقاً بشكل كامل، إلا أنه يعتمد على شيء ما إضافيّ يتعلّق بحالة ووضع الكون من حوله. سوف يكون ذلك مشابهاً للاعب في “لعبة العشرين سؤالاً” قرّر بشكل حاسم أن موضوعه هو الحمار عندما يكون سؤال خصمه بصيغة: هل هو كذلك؟، وأنّ موضوعه هو الحصان في حال العكس، أي أن تكون صيغة السؤال مثلاً: هل يمتلك ذلك؟، أو مستخدماً أيّ قاعدة تحكمية أخرى بشكل ثابت وراسخ. فعلى سبيل المثال، إذا سأله الخصم:هل هو شيء له آذان كبيرة؟ سيكون الجواب: نعم. ولكن إذا سأله خصمه: هل يمتلك آذاناً كبيرة؟ سيكون الجواب:لا. ففي هذه الحالة تكون الإجابات محددة سلفاً، حتى ولو لم يكن الموضوع في ذهن اللاعب مفرداً.
تجربة متخيلة:
يقول كونوي وكوتشين إنهما يمتلكان برهاناً على أنّ استجابات الجسيمات لا يمكن أن تكون محدّدة سلفاً، ويزعمان أنهما يستطيعان أن يبرهنا على حقيقة أنه ليس هناك لوغاريتم ولا نظام ولا طريقة يستطيع بها الجسيم أن يعطي إجابة وحيدة، أو أن يقرّر ويحدّد المواصفات بشكل سابق للأوان. وهما لا يخفيان دهشتهما وذهولهما مما استطاعا القيام به والبرهان عليه. وقد تخيّلا تجربة فكرية لبرهانهم تقوم على أن يتشابك جسيمان عزمهما الزاوي واحد، بحيث يكون عزماهما الزاويان متماثلين على طول أيّ محور محتمل، ويبقيان كذلك حتى لو انفصل أحدهما عن الآخر لمسافة بعيدة. فإذا شبكنا جسيمين بهذه الطريقة، ومن ثمّ أرسلنا عالم الفيزياء (س) مع أحد الجسيمين إلى المرّيخ، وتركنا الجسيم الثاني على الأرض مع عالم فيزياء آخر (ع)، بحيث لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال، وفقاً لنظرية النسبية، تمرير المعلومات بين عالمي الفيزياء أو بين الجسيمين. الآن إذا قام (س) و(ع) كلّ على حدة ومن حيث هو بتحريض الجسيمين على طول بعض المحاور التي يختارانها بحرية كاملة، فإنه إذا صادف واختارا كلاهما نفس المحور، فسوف يحصلان على نفس الاستجابة. لنتخيّل الآن أنّ جسيمي التجربة يشبهان لاعب “العشرين سؤالاً” الذي تحدّثنا عنه قبل قليل والذي موضوعه أحياناً حمار وأحياناً حصان، مع وجود قاعدة ثابتة وراسخة تحدد له حول أي حيوان سيكون الجواب. ومهما تكن تلك القاعدة، فإنها تستخدم من قبل كل من الجسيمين المحرضين وتدفعهما إلى نفس العزم الزاوي. ويمكن تشبيه هذا الأمر كما لو أن لاعب “العشرين سؤالاً” قد استنسخ، وبالتالي يكون كلا اللاعبين مجبراً على إعطاء إجابات تدلّ على نفس الحيوان.
ولكن، من جهة أخرى، أظهر كونوي وكوتشين أنّ هذا السيناريو غير ممكن بالنسبة للجسيمات الإفرادية. وقد استشهدا بتناقض كوتشين سبيكر القديم، والمشروح أعلاه، لإظهار أنّه إذا كان سلوك جسيم ما عزمه الزاوي واحد محدداً مسبقاً، فإنه لن يسمح له “بتبديل حيوانه”، وفق قاموس “لعبة العشرين سؤالاً”، ولن يكون ممكناً إعطاء أجوبة تتوافق مع قاعدة 1-0-1. كذلك إذا كان (س) و(ع) محظوظين في اختيار محاورهما، فسوف يكونان قادرين على إجبار الجسيمات إمّا على مخالفة أو على كسر قاعدة 1-0-1 وذلك بعكس البرهان التجريبي. من هنا يرى كوتشين وكونوي أنّ أفضل طريقة للابتعاد عن هذا التناقض هو القبول بمبدأ أن العزم الزاوي للجسيم لا يكون موجوداً ما لم يتمّ قياسه. على أنّ هناك على ما يبدو منفذاً واحداً للهروب من تلك المتاهة: لنفترض للحظة أنّ اختيار (س) و(ع) للمحاور التي ستقاس عليها العزوم الزاوية ليس اختياراً حرّاً، فآنذاك تكون الطبيعة قد “تآمرت” لمنعهما من اختيار المحاور التي ستظهر كسر القاعدة!. طبعاً لا يستطيع كوتشين وكونوي أن يستبعدا هذا الاحتمال كلياً، ولكنهما يتّكلان هنا على الإحساس الطبيعي للبشر بأنهم يفعلون ما يفعلونه بإرادتهم الحرة الخاصة، حتماً ليس بشكل كامل، ولكن بالتأكيد إلى نقطة معرفتهم بأنهم يمكن أن يختاروا الزرّ الذي يضغطون عليه في جهاز ما. وأي إنسان طبيعي سوف يسخر وربما ينفجر ضاحكاً من أيّ كلام يناقض ذلك الإحساس.
موافقون ومعارضون:
من الناحية المثالية ينبغي أن يكون البرهان الرياضي موجباً لتبديد كلّ الشكوك، ولكن كوتشين وكونوي لم ينجحا حتى الآن في إقناع عدد كبير علماء الفيزياء بأحقّية ما قاما به. فمثلاً يعبر العالم شيلدن كولدستين Sheldon Goldstein من جامعة روتغرز عن عدم اقتناعه بالأمر، وهو يعتقد أنّ البرهان المزعوم لا يحتوي ضمناً على أيّ شيء جديد، معتبراً أنّ الإرادة الحرّة توجد فقط بشكل عمليّ، وليس بشكل نظريّ. وقد أمضى كولدستين والعديد من زملائه ساعات طويلة يناقشون هذه الفرضية مع الثنائي الرياضي كوتشين وكونوي خلال السنوات الأربع الأخيرة، أي منذ نشرا فكرتهما للمرة الأولى. وعلى الرغم من أنّ النسخة الأحدث من أفكارهما، المنشورة في تموز 2008، تحاول أن تجعل من بعض الانتقادات عاملاً معزّزاً لاستنتاجهما، إلا أن سوء الفهم المتبادل ما يزال مسيطراً ولم يغيّر مساره حتى اليوم، الأمر الذي يعتبره كولدستين مدعاة للاكتئاب والحزن، ويعلّق فيما يشبه السخرية:”أن لا يتمكن الناس من التواصل مع بعضهم البعض في مجال السياسة، فهذا أمر مفهوم، ولكن لا ينبغي ـ فيما أرى ـ أن ينسحب هذا الأمر على المجال العلمي”.
أما جيرارد ت. هوفت Gerard ’t Hooft من جامعة أتريشت في هولندا، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1999، فيعتبر أنّ استنتاج الثنائي الرياضي صحيح، ولكنه هو شخصياً يفضل مذهب الحتمية على نظرية الإرادة الحرّة، بل ويتمسّك بهذا الإيمان بالحتمية بقوة وعناد، وعن تجربة الثنائي الرياضي المشروحة أعلاه يقول ت. هوفت: “كمؤمن عنيد بمذهب الحتمية، أعتبر أنّ اختيار أشخاص التجربة لما سيقاس من عزوم زاوية مثبت منذ فجر التاريخ ، وكذلك خصائص الشيء الذي قرّروا أن يسمّوه الفوتون. إذا كنت مؤمناً بالحتمية، يجب أن تؤمن بها على طول الطريق، ولا مفرّ ممكناً أمامك. وأنا أعتقد أن جوهر ما أظهره كوتشين وكونوي هنا ـ وبطريقة جميلة ـ هو أنه من المستحيل دعم وتأييد الاعتقاد الفاتر بالحتمية الكاذبة”.
خلاصة:
يبدو أنّ ما عجزت الفلسفة عن حسمه على مدى آلاف السنين، لن تستطيع الرياضيات حسمه في بضع سنين، وليست الخلافات بين علماء الرياضيات والفيزياء بشأن الموضوع اللغز، بأقلّ حدّة منها بين الفلاسفة والمفكرين وأتباع المذاهب الدينية المختلفة على مرّ العصور. ويبدو أننا سنظلّ، إلى وقت طويل وربّما إلى أبد الآبدين، نسمع دويّ السؤال: هل نحن أحرار؟ أم مجبرون؟ أم منزلة بين المنزلتين؟.
من ديموقريطس الى الأشاعرة
نيوتن والفيزياء التقليدية
آينشتاين والنظرية النسبية
من آينشتاين الى “دفقات” بلانك
من الحتمية الى الاحتمالية
العالم دون الذري العجيب
ورغم أنّ الإرادة الإنسانية الحرّة تبدو من أكثر الموضوعات الفلسفية صعوبة وهلامية ـ إذا جاز التعبير ـ وأبعد ما يكون عن دنيا الرياضيات وشروحها وبراهينها، فإنّ العالمين جون كونويJohn Conway وسيمون كوتشين Simon Kochen ، وهما عالمان محترمان جدّاً من جامعة برينستون، قرّرا منذ سنوات أن يخوضا غمار هذه المعمعة، حتى توصّلا مؤخراً إلى ما اعتبراه برهاناً رياضياً على المبدأ التالي: إذا كان الإنسان يمتلك ولو جزءاً بالغ الصغر من الإرادة الحرّة، فإنّ الذرّات ينبغي أن تتصرف بشكل حرّ، غير قابل للتنبّؤ والتوقّع. وبما أنّ علم ميكانيك الكمّ التقليديّ قد تبنّى سابقاً فكرة عدم القدرة على التنبّؤ بالنسبة لسلوك الجسيمات (حيث تقول نظرية الكمّ: إنّ أفضل ما يستطيع أيّ شخص أن يتمنّى فعله هو التنبّؤ بأرجحية أنّ الجسيم سوف يتصرّف بطريقة معيّنة)، فإنّ علماء الفيزياء لم يشعروا بعد الاكتشاف الرياضي الفلسفيّ الجديد ـ إذا جازت التسمية ـ بأيّ نوع من القلق أو التردّد على الإطلاق، رغم أنّهم على طول الخطّ رجوعاً إلى اينشتين نفسه لم يكونوا سعداء بهذه الفكرة، ومن الأقوال المشهورة لاينشتين في هذا المجال: الربّ لا يلعب النرد. وقد حاول بعض علماء الفيزياء في الواقع، ومنذ ولادة ميكانيك الكمّ، أن يقدّموا تفسيرات بديلة لمعادلاتها بهدف التخلّص من هذه اللا حتمية indeterminism. ولعلّ التفسير البديل الأكثر شهرة يعود إلى عالم الفيزياء ديفيد بوم David Bohm الذي حاول في خمسينات القرن الماضي أن يثبت أنّ سلوك الجسيمات تحت الذرية محدّد كلياً بـ “عوامل متغيرة خفية” لا يمكن مراقبتها. أما كوتشين وكونوي فيريان أنّ هذا البحث ميئوس منه، ويزعمان أنهما يمتلكان البرهان على أنّ عدم إمكانية التنبّؤ هو أمر متأصّل في العالم نفسه، أكثر مما هو مجرد نظرية كمّ. بينما يرى علماء فيزياء آخرون أنه يجب الكفّ عن نظرية الحتمية، أو الكفّ عن نظرية الإرادة الحرّة، حتى أصغر جزء من الإرادة الحرّة.
برهان كونوي كوتشين سبيكر:
تنطلق مناقشة كونوي وكوتشين من برهان قديم اكتشفه كوتشين نفسه قبل أربعين عاماً بالاشتراك مع زميله ارنست سبيكر Ernst Specker. فمن المعروف أنّ الجسيمات تحت الذرية تمتلك خاصية تسمّى العزم الزاوي [عز] الذي تحدّده حركة الجسيم ودورانه على المحاور المختلفة، فعلى كل محور يحدث للجسيم نفسه عزم زاوي مختلف عنه على محاور أخرى. وقد أظهرت التجارب أنّ هناك نمطاً من الجسيمات تحت الذرية التي عزمها الزاوي واحد [جسيم عز=1]، وهذا النمط يمتلك خاصية غريبة تلخص كما يلي: إذا اخترنا ثلاثة محاور عمودية، وحرّضنا جسيم عز=1 بغية تحديد ما إذا كان العزم الزاوي حول كلّ محور من محاوره هو صفر، فإنّ واحداً من المحاور بكلّ تأكيد سيكون له عزم زاوي صفر، بينما لن يكون العزم الزاوي على المحورين الآخرين صفراً. وهذه القاعدة سمّاها كونوي وكوتشين: قاعدة 1-0-1 .
من الواضح أنّ خاصية العزم الزاوي هي واحدة من تلك الخاصيات التي لا يستطيع علماء الفيزياء التكهن بها ولا بكيفية تطورها قبل التحريض. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يتخيّل أنّ العزم الزاوي لجسيم ما حول أيّ محور، كان محدداً قبل أن يصل أيّ شخص آخر ليحرّضه. وهذا هو تماماً ما نفترضه نحن بشكل عاديّ في الحياة اليومية، فنحن لا نتخيّل مثلاً أنّ جداراً أبيض قد تحوّل أبيض اللون، تماماً في اللحظة التي نظرنا فيها إليه، بل نحن نعتبر أنّه كان أبيض اللون طيلة الوقت، قبل النظر إليه وبعد ذلك أيضاً. لكن كوتشين وسبيكر أظهرا أنّ هذه الفرضية ـ فرضية أنّ الجدار كان أبيض طيلة الوقت ـ لا يمكن أن تصمد في عالم الجسيمات تحت الذرية الغريب. لقد استخدما فرضيات رياضية صرفة لإظهار أنه ما من طريقة تمكّن الجسيمات من اختيار عزومها الزاوية حول كل محور متخيّل أو يمكن تخيله، بحيث تتوافق مع قاعدة 1-0-1 . وفي الواقع فإنّ مجموعة من 33 محوراً فقط ستكون كافية لإدخال الجسيم في حالة تناقض مع القاعدة آنفة الذكر، فالجسيم يستطيع اختيار العزوم الزاوية حول أوّل 32 محوراً بشكل يماشي القاعدة، ولكن بالنسبة للمحور الأخير لا الصفر ولا اللا صفر سوف يعمل بما يناسب القاعدة، لأنّ اختيار الصفر سوف يوجد مجموعة من ثلاثة محاور متعامدة اثنان منها صفر، أما اختيار اللا صفر فسوف يوجد مجموعة مختلفة من ثلاثة محاور متعامدة ثلاثتها تكون لا صفر، مما يؤدي في كلتا الحالتين إلى كسر قاعدة 1-0-1. من هنا استنتج كوتشين وسبيكر أنّ الجسيم ليس بمقدوره أن يحدّد عزمه الزاوي في أيّ اتّجاه قبل أن يتمّ قياسه، ولو أنّ ذلك يحدث فعلياً لكان علماء الفيزياء قادرين أحياناً على مراقبته وهو يكسر قاعدة 1-0-1 ، الأمر الذي لا يحدث أبداً. بل الذي يحدث، بدلاً من ذلك، هو أنّ الجسيم يحدد أثناء طيرانه العزم الزاوي الذي يأخذه على محور طيرانه.
لعبة العشرين سؤالاً:
في سبيل تبسيط الفكرة وتقريبها للأذهان، يمكن مقارنة الموقف بـ “لعبة العشرين سؤالاً”، وهي لعبة يضمر فيها أحد اللاعبين اسم شيء ما أو موضوع ما في نفسه، ويوجه إليه اللاعب الثاني ـ الخصم ـ أسئلة جوابها: نعم أو لا، بغية التوصل إلى اكتشاف اسم ذلك الشيء أو الموضوع. فاللاعب الشريف يقرّر سلفاً في نفسه موضوعاً واحداً لا غير، ويجيب عن كلّ سؤال من أسئلة خصمه بصدق وشرف، على أمل ألا يتمكّن الخصم من الاستدلال على ما قام باختياره. أماّ اللاعب الذكيّ فيمكنه أن يغشّ، عبر تبديل الموضوع بشكل جزئيّ على طول الخطّ، وفي هذه الحالة، لا تكون أجوبته عن أسئلة الخصم محدّدة مسبقاً، وهنا نقطة التشابه مع سلوك الجسيم، كما شرح كوتشين وسبيكر، فالجسيم ـ وفقاً لهما ـ يشبه اللاعب الغشّاش، وقد استنتجا ذلك بإظهار أنه لا يوجد موضوع مفرد يرضي كلّ الأسئلة (أو الـ 33 محوراً) في نفس الوقت.
لكن ثمّة تفسير محتمل آخر، فربّما يكون العزم الزاوي للجسيم محدّداً مسبقاً بشكل كامل، إلا أنه يعتمد على شيء ما إضافيّ يتعلّق بحالة ووضع الكون من حوله. سوف يكون ذلك مشابهاً للاعب في “لعبة العشرين سؤالاً” قرّر بشكل حاسم أن موضوعه هو الحمار عندما يكون سؤال خصمه بصيغة: هل هو كذلك؟، وأنّ موضوعه هو الحصان في حال العكس، أي أن تكون صيغة السؤال مثلاً: هل يمتلك ذلك؟، أو مستخدماً أيّ قاعدة تحكمية أخرى بشكل ثابت وراسخ. فعلى سبيل المثال، إذا سأله الخصم:هل هو شيء له آذان كبيرة؟ سيكون الجواب: نعم. ولكن إذا سأله خصمه: هل يمتلك آذاناً كبيرة؟ سيكون الجواب:لا. ففي هذه الحالة تكون الإجابات محددة سلفاً، حتى ولو لم يكن الموضوع في ذهن اللاعب مفرداً.
تجربة متخيلة:
يقول كونوي وكوتشين إنهما يمتلكان برهاناً على أنّ استجابات الجسيمات لا يمكن أن تكون محدّدة سلفاً، ويزعمان أنهما يستطيعان أن يبرهنا على حقيقة أنه ليس هناك لوغاريتم ولا نظام ولا طريقة يستطيع بها الجسيم أن يعطي إجابة وحيدة، أو أن يقرّر ويحدّد المواصفات بشكل سابق للأوان. وهما لا يخفيان دهشتهما وذهولهما مما استطاعا القيام به والبرهان عليه. وقد تخيّلا تجربة فكرية لبرهانهم تقوم على أن يتشابك جسيمان عزمهما الزاوي واحد، بحيث يكون عزماهما الزاويان متماثلين على طول أيّ محور محتمل، ويبقيان كذلك حتى لو انفصل أحدهما عن الآخر لمسافة بعيدة. فإذا شبكنا جسيمين بهذه الطريقة، ومن ثمّ أرسلنا عالم الفيزياء (س) مع أحد الجسيمين إلى المرّيخ، وتركنا الجسيم الثاني على الأرض مع عالم فيزياء آخر (ع)، بحيث لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال، وفقاً لنظرية النسبية، تمرير المعلومات بين عالمي الفيزياء أو بين الجسيمين. الآن إذا قام (س) و(ع) كلّ على حدة ومن حيث هو بتحريض الجسيمين على طول بعض المحاور التي يختارانها بحرية كاملة، فإنه إذا صادف واختارا كلاهما نفس المحور، فسوف يحصلان على نفس الاستجابة. لنتخيّل الآن أنّ جسيمي التجربة يشبهان لاعب “العشرين سؤالاً” الذي تحدّثنا عنه قبل قليل والذي موضوعه أحياناً حمار وأحياناً حصان، مع وجود قاعدة ثابتة وراسخة تحدد له حول أي حيوان سيكون الجواب. ومهما تكن تلك القاعدة، فإنها تستخدم من قبل كل من الجسيمين المحرضين وتدفعهما إلى نفس العزم الزاوي. ويمكن تشبيه هذا الأمر كما لو أن لاعب “العشرين سؤالاً” قد استنسخ، وبالتالي يكون كلا اللاعبين مجبراً على إعطاء إجابات تدلّ على نفس الحيوان.
ولكن، من جهة أخرى، أظهر كونوي وكوتشين أنّ هذا السيناريو غير ممكن بالنسبة للجسيمات الإفرادية. وقد استشهدا بتناقض كوتشين سبيكر القديم، والمشروح أعلاه، لإظهار أنّه إذا كان سلوك جسيم ما عزمه الزاوي واحد محدداً مسبقاً، فإنه لن يسمح له “بتبديل حيوانه”، وفق قاموس “لعبة العشرين سؤالاً”، ولن يكون ممكناً إعطاء أجوبة تتوافق مع قاعدة 1-0-1. كذلك إذا كان (س) و(ع) محظوظين في اختيار محاورهما، فسوف يكونان قادرين على إجبار الجسيمات إمّا على مخالفة أو على كسر قاعدة 1-0-1 وذلك بعكس البرهان التجريبي. من هنا يرى كوتشين وكونوي أنّ أفضل طريقة للابتعاد عن هذا التناقض هو القبول بمبدأ أن العزم الزاوي للجسيم لا يكون موجوداً ما لم يتمّ قياسه. على أنّ هناك على ما يبدو منفذاً واحداً للهروب من تلك المتاهة: لنفترض للحظة أنّ اختيار (س) و(ع) للمحاور التي ستقاس عليها العزوم الزاوية ليس اختياراً حرّاً، فآنذاك تكون الطبيعة قد “تآمرت” لمنعهما من اختيار المحاور التي ستظهر كسر القاعدة!. طبعاً لا يستطيع كوتشين وكونوي أن يستبعدا هذا الاحتمال كلياً، ولكنهما يتّكلان هنا على الإحساس الطبيعي للبشر بأنهم يفعلون ما يفعلونه بإرادتهم الحرة الخاصة، حتماً ليس بشكل كامل، ولكن بالتأكيد إلى نقطة معرفتهم بأنهم يمكن أن يختاروا الزرّ الذي يضغطون عليه في جهاز ما. وأي إنسان طبيعي سوف يسخر وربما ينفجر ضاحكاً من أيّ كلام يناقض ذلك الإحساس.
موافقون ومعارضون:
من الناحية المثالية ينبغي أن يكون البرهان الرياضي موجباً لتبديد كلّ الشكوك، ولكن كوتشين وكونوي لم ينجحا حتى الآن في إقناع عدد كبير علماء الفيزياء بأحقّية ما قاما به. فمثلاً يعبر العالم شيلدن كولدستين Sheldon Goldstein من جامعة روتغرز عن عدم اقتناعه بالأمر، وهو يعتقد أنّ البرهان المزعوم لا يحتوي ضمناً على أيّ شيء جديد، معتبراً أنّ الإرادة الحرّة توجد فقط بشكل عمليّ، وليس بشكل نظريّ. وقد أمضى كولدستين والعديد من زملائه ساعات طويلة يناقشون هذه الفرضية مع الثنائي الرياضي كوتشين وكونوي خلال السنوات الأربع الأخيرة، أي منذ نشرا فكرتهما للمرة الأولى. وعلى الرغم من أنّ النسخة الأحدث من أفكارهما، المنشورة في تموز 2008، تحاول أن تجعل من بعض الانتقادات عاملاً معزّزاً لاستنتاجهما، إلا أن سوء الفهم المتبادل ما يزال مسيطراً ولم يغيّر مساره حتى اليوم، الأمر الذي يعتبره كولدستين مدعاة للاكتئاب والحزن، ويعلّق فيما يشبه السخرية:”أن لا يتمكن الناس من التواصل مع بعضهم البعض في مجال السياسة، فهذا أمر مفهوم، ولكن لا ينبغي ـ فيما أرى ـ أن ينسحب هذا الأمر على المجال العلمي”.
أما جيرارد ت. هوفت Gerard ’t Hooft من جامعة أتريشت في هولندا، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1999، فيعتبر أنّ استنتاج الثنائي الرياضي صحيح، ولكنه هو شخصياً يفضل مذهب الحتمية على نظرية الإرادة الحرّة، بل ويتمسّك بهذا الإيمان بالحتمية بقوة وعناد، وعن تجربة الثنائي الرياضي المشروحة أعلاه يقول ت. هوفت: “كمؤمن عنيد بمذهب الحتمية، أعتبر أنّ اختيار أشخاص التجربة لما سيقاس من عزوم زاوية مثبت منذ فجر التاريخ ، وكذلك خصائص الشيء الذي قرّروا أن يسمّوه الفوتون. إذا كنت مؤمناً بالحتمية، يجب أن تؤمن بها على طول الطريق، ولا مفرّ ممكناً أمامك. وأنا أعتقد أن جوهر ما أظهره كوتشين وكونوي هنا ـ وبطريقة جميلة ـ هو أنه من المستحيل دعم وتأييد الاعتقاد الفاتر بالحتمية الكاذبة”.
خلاصة:
يبدو أنّ ما عجزت الفلسفة عن حسمه على مدى آلاف السنين، لن تستطيع الرياضيات حسمه في بضع سنين، وليست الخلافات بين علماء الرياضيات والفيزياء بشأن الموضوع اللغز، بأقلّ حدّة منها بين الفلاسفة والمفكرين وأتباع المذاهب الدينية المختلفة على مرّ العصور. ويبدو أننا سنظلّ، إلى وقت طويل وربّما إلى أبد الآبدين، نسمع دويّ السؤال: هل نحن أحرار؟ أم مجبرون؟ أم منزلة بين المنزلتين؟.